توقفت معركة الأسرى ولكنها لمّا تنتهِ
هنيئاً للحركة الأسيرة انتصارها على الجلاد المحتل في معركة الإرادات التي استخدموا فيها أمعاءهم الخاوية. صحيح أنهم لم يحققوا كل ما أرادوا، لكنهم حققوا الكثير بقياسات ما كان عليه وضعهم، وبقياسات ما دأبت إسرائيل عليه في إطار التعامل الوحشي معهم.
وشكراً لكل الذين تضامنوا مع الأسرى الأبطال، في مختلف العواصم، شكراً للأجانب والمؤسسات الأجنبية، ذلك أن الفلسطيني أو العربي، يقوم بواجب لا يستحق توجيه الشكر، بقدر ما أنه يثير الاعتزاز، ويشق الطريق أمام إمكانية تحقيق المزيد من الانتصارات الموضعية المهمة.
هكذا يمكن وينبغي أن يخوض الشعب الفلسطيني معاركه ضد الاحتلال، إذ ليس بالإمكان الإطاحة به، والانتصار عليه بضربة واحدة، أو التغلب على آلته العسكرية التدميرية، بالوسائل العسكرية، على الأقل في هذه المرحلة.
لقد هزمت حكومة الوحدة الوطنية، التي تعد الأقوى من حيث اتساع تمثيلها ولأنها كذلك فإنها حكومة حرب، خسرت أولاها مع الأسرى الأبطال، ويمكن أن تخسر المزيد، شرط أن يحسن الفلسطينيون خوض الصراع معها.
وشكراً لمصر، التي وقفت وتقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، لا يحول دون قيامها بدورها، ما تمر به البلاد من مخاضات صعبة، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. شكراً لأن مصر ساهمت بقوة في التوصل إلى اتفاق بين الحركة الأسيرة، والاحتلال. وأثبتت أنها حارسة القومية العربية، السند الأقوى للقضية الفلسطينية، ولحقوق الشعب الفلسطيني.
المعركة التي انتصر فيها الأسرى لم تكن دون ثمن، ولم تكن خالية من معاينات صعبة ومن مخاطر كبيرة على حياة الكثيرين منهم، ولكن ليس شرطاً أن تدفع الثمن حتى تحصل على ما تريد من أهداف، فقد دفع الشعب الفلسطيني الكثير الكثير من التضحيات، لكنه حتى الآن لم يحقق أهدافه، ولم ينجح في انتزاع حقوقه الوطنية.
إذاً هي الإرادة الصلبة، غير المترددة، الإرادة التي تتسم بالوضوح، وترتكز إلى الصبر والمثابرة، وهي الإرادة المستندة إلى التقدير الموضوعي لمعادلة القوة، فلا هي ترفع سقوفها إلى حدود يصعب تحقيقها، ولا هي تتواضع في تحديد أهدافها.
وهي أيضاً الوحدة، وحدة القيادة والموقف، والسلوك، التي تتحطم عليها إرادات محتل لا يتعرف إلى القرارات والقوانين والمواثيق الدولية، ولا يحكم سلوكه سوى غرور القوة، والتمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني، والرغبة في السيطرة، والانتقام، وتحقيق المزيد من الأطماع.
ولكن أليس علينا أن نتساءل، إزاء الدروس والعبر التي ينبغي على القيادات السياسية أن تستخرجها وأن تتمثلها بقوة، وتتبناها كسلوك عملي في مواجهة الأزمات والاستحقاقات التي تواجه شعبها؟ ماذا تنتظر القيادات السياسية التي تقف على طرفي الانقسام، حتى تعود إلى مصر، لكي تصفي ملفات الخلاف التي تحول دون استعادة الوحدة، استعداداً لخوض معارك تعلموا كيفية خوضها على أيدي الأسرى الأبطال؟
لقد جاء الرد الإسرائيلي مخيباً للآمال، ولا جديد فيه سوى التلاعب بالكلام، الذي لا يمكن بأي حال التغطية على السياسات والممارسات المتحققة على أرض الواقع، وهي أكثر من واضحة، ولا يحتمل الموقف إزاءها أي تردد.
إسرائيل القوية، الموحدة، تستعد للذهاب إلى حروب، ومن غير المحتمل أن توظف هذه القوة لتحقيق السلام، ولذلك على الفلسطينيين أن يعلنوها مدوية، لقد فشلت المفاوضات، وفشلت عملية السلام، ولا أفق أمام هذه العملية، ومن حق الشعب الفلسطيني أن يحدد خياراته، وسياساته، في ضوء ذلك. ليس من الضروري أن نتنازل عن خطاب المفاوضات والسلام، فهذا لا يزال صالحاً لمخاطبة المجتمع الدولي، ولكن من المهم أن تلفت نظر المجتمع الدولي إلى وجود أزمة قوية في هذه المنطقة الجغرافية، تهدد الأمن والاستقرار، فذلك هو السبيل لتحريك هذا المجتمع، ليس من أجل عيون فلسطين والفلسطينيين، ولكن من أجل مصالحه.
هل ننتظر الانتخابات الأميركية، أملاً في أن يتبعها تحرك متجدد نحو دفع المفاوضات وعملية السلام؟ الجواب يقدمه باراك أوباما، الذي بدأ عهده على هذا النحو، ثم سرعان ما عاد إلى أعقاب أسلافه، وفتح كل خزائن القوة والنفوذ الأميركي لدعم السياسات الإسرائيلية المناهضة لعملية السلام، والساعية من أجل نشر الحروب والفوضى وارتكاب الجرائم.
وعلى الطرف الآخر، هل علينا أن ننتظر نتائج الانتخابات المصرية، وما سيؤول إليه حال الجارة الشقيقة الكبيرة التي يرتبط مصير قضيتنا بمصيرها؟
إن مصر، أياً كان مَن يحكمها، إسلامي أم شيوعي أم ناصري، أم ليبرالي، لا يمكنها أن تنتصر للقضية الفلسطينية عبر انتصارها لهذا الطرف أو ذاك، لقد تعودنا عليها وهي تنتصر للحقوق الوطنية الفلسطينية، وتنتصر للشعب الفلسطيني بأسره، وهي، أي مصر، أياً كان مَن يحكمها، تدرك أن انتصارها لطرف دون الآخر، قد يؤدي إلى خسائر وهزائم أكثر مما أنه يؤدي إلى انتصارات.
يترتب على القيادات السياسية، التي تتقاعس عن تقديم الجهد الحقيقي المخلص من أجل المصالحة واستعادة الوحدة، انطلاقاً من حسابات فئوية ومصلحية، يترتب على هذه القيادات أن تدرك أن الشعب أيضاً يكون قد تعلم من دروس تجربة الأسرى الأخيرة مع الاحتلال.
هي واحدة من اثنتين، فإما أن تسارع القيادات السياسية إلى الامتثال لإرادة التوحد، والمصالحة، والاستفادة من دروس تجربة الحركة الأسيرة، وإما أن الشعب سيبادر إلى إضراب شامل، عسى أن يفرض على أولي الأمر، أن يفعلوا ما كان عليهم أن يفعلوه منذ زمن.
وأخيراً، هل انتهت قضية الأسرى، بالاتفاق الذي تم التوصل إليه، وهل يمكن تلخيص واختزال هذا الملف بجملة المطالب التي حققتها الحركة الأسيرة. إن قضية الأسرى هي قضية وطنية بامتياز، تخترق كل الحقوق الفلسطينية وتجسدها، ولذلك، فإنها ينبغي أن ترفع إلى مستوى أولويات السياسة الفلسطينية. لا يجوز للجامعة العربية وللقيادة الفلسطينية، أن تدس قراراتها بتدويل الملف في أدراج النسيان والإهمال ريما يعود الأسرى لخوض معركة أخرى؟ الكل يعرف أن الاحتلال وافق مرغماً على توقيع الاتفاق، وأنه سيعود عنه حين تلوح له الفرصة، فهذه ليست المرة الأولى التي يحقق فيها الأسرى إنجازات، سرعان ما أن تعود قوات الاحتلال عنها.