حياد المبدع أحمد دحبور: بين نُبل المقصد وخطأ التعليل

اسعدتني عودة العزيز المبدع أحمد دحبور الى الكتابة، لا سيما فيما يحمله هذا العوْد، من بشرى بموفور الصحة (أدامها الله عليه). فهو قيمة أدبية ومعنوية كبيرة، بالنسبة للفلسطينيين جميعاً.
وفي مستهل عودته الى الكتابة، نوّه "أبو يسار" الى أن مكوثه، خلال السنوات القليلة الماضية، كان في سورية النازفة، ونعلم أنه كان في منطقة حمص المنكوبة تحديداً، ويبدو أن أهوال ما يحدث هناك، اقنعته بما هو مقنع حقاً، وهو ضرورة أن ينأى الفلسطيني بنفسه عن الانخراط في النزاع، لذا حرص الرجل على التلميح الى رجاحة الحياد، في شأن الأحوال العاصفة، التي يمر بها هذا البلد الحبيب. كتب يصف حياده مثلما تُرسم الضرورات الشعرية، قائلاً إنه "حياد غير حيادي" وفهمت مقصده وقدرت له ما يعنيه، وتلمّست موضع النُبل والعدالة فيه. غير أن أحمد دحبور، يذهب ـ فيما بدا لي من خلال تعليله للموقف ـ الى وجهة خاطئة قوامها التذكير بفضل للنظام على الفلسطينيين، بينما الفضل الذي ذكره، لا يصح أن يُنسب اليه. ثم كان الخطأ الأبرز في هذا السياق، هو ما يلامس المماهاة بين الحكم والبلد الرحب البديع الكريم، من خلال التشديد على ضرورة الوفاء لسورية، على قاعدة أن أياً من أنظمتها لم يتعامل مع الفلسطينيين إلا كمواطنين، وبالتالي ينبغي "الوقوف على مسافة واحدة، من أطرف النـزاع الداخلي". وهنا يمنح "أبو يسار" النظام ما يوازي حصة الشعب، أو يزيد عليها إن خصمنا من حصة النظام، حقوق دم الناس شيوخاً وأطفالاً ونساءً. والأجدر أن يكون دور سورية، عبر التاريخ، أدعى الى نصرة شعبها، لأنها أولاً وأخيراً وطننا. فنحن، حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، كنا نصف أنفسنا، بأننا جنوبيْ سورية وليس جنوبها.
واستطراداً للتعقيب على إشارة أخي أحمد دحبور، الى امتيازات الفلسطينيين في سورية، وتلميحه الخاطىء بأن هذه الامتيازات، التي ما تزال مكفولة حتى اليوم، هي من كرم النظام وفضله؛ سأروي من التاريخ، حكاية عرضتها وثائق متطابقة، منها وثائق إسرائيلية، وتناولها بالتمحيص بعض المؤرخين الجدد: كان حسني الزعيم، الذي تسلم قيادة الجيش السوري في أيلول (سبتمبر) 1948 قد نفذ انقلاباً عسكرياً، في الثلاثين من آذار (مارس) 1949 اتفق على توقيته وأهدافه، مع مندوب المخابرات الأمريكية في السفارة الأمريكية في دمشق. فالأمريكيون كانوا يخشون أن يستغل السوفيات اضطراب الأحوال السياسية في سورية، للسيطرة عليها من خلال انقلاب آخر. وكان حسني الزعيم نصف مخبول، دائم الشراب مخموراً، مغامراً فظاً وعصبياً. فعندما عمل قبل تسلمه قيادة الجيش بقليل، رئيساً للمحكمة العسكرية في دير الزور، أدرك الناس مدى غلاظته وسوء سلوكه. وبعد أن نجح في انقلابه، وزج بالرئيس شكري القوتلي (في ولايته الأولى) في السجن، سرعان ما بدأت تتحول اتفاقاته مع الأمريكيين في سفارتهم، الى مشروعات على الأرض: فَتَح البلاد لشركة التابلاين، لكي تنشىء دولة داخل الدولة، مطاراً وسككاً حديدية وأرصفة موانىء صغيرة ومرافق وجيش من الفنيين والجواسيس المستعربين، ووقع اتفاقية الأنابيب مع البريطانيين، لتصدير النفط العراقي من ميناء بانياس، وكل ذلك بشروط ميسرة جداً، أقرب الى وضعية الاستباحة. غير أن الأمر الأخطر في سعي حسني الزعيم، لتثبيت حكمه، كان توسله المزري، لدافيد بن غوريون بأن يمُن عليه بمقابلة تغيّر مسار التاريخ السياسي للبلاد. لكن الأخير، الذي كان يعرف أن الرجل معتوه ولن يعمّر في الحكم، وليس على مستوى خطوة كهذه، رفض مقابلته، بخاصة وأن الزعيم كان يطلب مالاً، تحت عنوان أكلاف توطين الفلسطينيين. وسخر بن غوريون من هذا المعتوه الذي يريد يقتسم معه مقدرات إسرائيل المتواضعة آنذاك. وعاود حسني الزعيم الكرّة، عارضاً على بن غوريون إنهاء مشكلة نحو 40% من اللاجئين الفلسطينيين، باستيعابهم في سورية، مقابل ضمانات المساندة المستترة، بالمعلومات والمال والدعم الدولي. وقبل أن يسمع الزعيم، كلمة إيجابية (لم يسعفه الوقت لسماعها) من دافيد بن غوريون، مضى في خطوات استرضائه، فأعلى من شأن أتفه الضباط وأكثرهم جُبنا وتواطؤاً، ومن بينهم قائد القوات السورية في حرب فلسطين عبد الله عطفة، فرفّع رتبته الى لواء. وأصدر مراسيم القوانين "الكريمة" التي يسرت سبل الحياة والاندماج للاجئين الفلسطينيين بجعلهم "في حكم السوريين". وقد ظلت تلك القوانين سارية بعد انقلاب سامي الحناوي وإعدام حسني الزعيم، لأن أحداً لم يجرؤ على التراجع عنها، وإلا اتهم بمجافاة الشعب الفلسطيني. وتعرضت قوانين حسني الزعيم، لتعديلات استدراكية واجبة، بخاصة بعد عودة شكري القوتلي رئيساً في أيلول (سبتمبر) 1955 بتأطير قانوني لوضع الفلسطينيين كـ "عائدين" مع الحفاظ على امتيازاتهم المقررة. غير أن الذي حدث بعد عقود، هو أن تراجعت التطبيقات، مع بدء حقبة حافظ الأسد، حتى لم يعد هناك فلسطينيون في مواقع تنفيذية مهمة في الدولة، كالمدير العام لمنشأة كبرى، أو لوزارة، مثلما كان المرحوم خالد الفاهوم رئيس المجلس الوطني الفلسطيني الأسبق ـ مثلاً ـ الذي عمل مديراً لإدارة تعليم وملحقاً ثقافياً لسورية لدى الولايات المتحدة!
إن أسوأ الافتراضات التلقائية التي ترد على ألسنة البعض، أو الأخطاء الشائعة في لغتهم (وأبو يسار ليس واحداً من هذا البعض) في سياق ذم الثورة السورية، هو القول بأن سورية الأسد (هكذا!) هي صاحبة الأفضال والمآثر، وكأن أسرة حافظ الأسد وأنسباءها وأصفياءها الفاسدين وشبيحّتها، هم أصحاب الفضائل والمكارم على السوريين والفلسطينيين، أو كأن النظام هو المعادل الموضوعي لسورية. بالعكس، عندما بدأ حافظ الأسد في ضخ شباب طائفته الى الأجهزة الحكومية، بدأ بإقصاء الفلسطينيين عن المواقع الإدارية التنفيذية في الدولة، أي إن التميز الطائفي بين السوريين، بدأ بإقصاء الفلسطينيين. وربما يكون بعض الاختزال في النص الذي كتبه "أبو يسار" أسقط سهواً مقصده، وهو أن سورية التي أعطت، لا تستحق هذا العذاب الذي هي فيه، وهذا صحيح. لكننا حين نعدد أفضال سورية، شعباً وجيشاً وطنياً ومؤسسات، يصح أن نتذكر ذمائم النظام الذي أدمى جسدنا وجسد الشعب السوري، واقترف الكبائر، وهيأ الجيش الوطني لمثل هذا الدور الشائن الذي يضطلع به الآن، دفاعاً عن الأسرة وتدميراً للوطن وللمجتمع والدولة. فلم يتح هذا النظام، للسوريين حياة سياسية، مع النذر اليسير من الرفق والديموقراطية والكرامة والتنمية، مثلما لم يتح للثورة الفلسطينية أفقاً نضالياً تاريخياً ولا استقراراً يمكنها من تحويل وجودها الى ورقة سياسية ضاغطة. أيضاً كان العكس هو الصحيح، إذ كان حافظ الأسد يرفض قطعياً، أن تكون للفلسطينيين ورقة سياسية مستقلة، ومن هنا كان العداء لياسر عرفات و"فتح" التي لم يسمح لها بمجرد التواجد الفيزيائي الوازن، ناهيك عن القتال. وإن كانت الأيام ستكشف الكثير من حيثيات هذه اللحظة، وستؤكد على أن نظام الأسد، اقترف من الفظاعات ضد الشعب السوري ما يفوق قدرة العقل الإجرامي على التخيل والاستباط؛ فإن الوقائع التي انكشفت لنا جميعاً، وعلى امتداد سنوات علاقتنا به، أكدت على تمسك هذا النظام بشن الحرب علينا من كل الخنادق وفي كل الظروف. ففي ذلك السياق، اقترف المجازر والاغتيالات والحصارات الخانقة، وآخرها، قُبيل أوسلو، حين حاصرنا من خندق الأمريكيين الذين فرضوا علينا المقاطعة العربية، بعد حرب الخليج الثانية، حتى لم نجد فكاكاً أو خروجاً من الطوق إلا بما نحن فيه الآن. ومن مفارقات وعجائب منطق الأسديين، أنهم جعلوا من شكل خروجنا الذي ما يزال يراوح في مربع الشكل، مضامين خيانة وتفريط، وأطلقوا علينا كلابهم النابحة، للإمعان في هجائنا، وفي تشويه الحركة الوطنية الفلسطينية وشق صفوفها. وللأسف، إنساق بعض السذج وكل الكاذبين الخبثاء، أصحاب المصالح الفئوية والشخصية، مع نظام الأسديين، وظلوا يبيعوننا كلاماً فارغاً، عن الممانعة والاستهداف الإمبريالي!
مقولة عدم التدخل في الشأن السوري، مهمة ووجيهة، إن كان معنى التدخل، هو الانخراط في الصراع، دعماً لأحد الطرفين، حتى وإن كان التدخل بقدر أقل من تدخل النظام السوري في الشأن الفلسطيني. ففي هكذا انخراط، يكمن الخطر الناشىء عن طبيعة النظام الذي يفتش عن عوامل تشتيت، لمعانى جريمته المديدة في حق السوريين. فلو انخرطتنا، سيصبح الفلسطينيون في لغته، أصل البلاء. وتذكرون، كيف حاولت بثينة شعبان، في بداية الأزمة، أن تجعل من الفلسطينيين في مخيم الرمل الجنوبي، في اللاذقية، سبب المشكلة وأصلها وفرعها، وقد انتابنا يومها الخوف على أبناء شعبنا الفلسطيني في سورية، لأن دمنا ليس له من شفيع. ولنا تجارب وقعت في فترات كان فيها المناخ العربي أفضل وأكثر تعاطفاً مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأقدر على إنقاذنا، سواء في تل الزعتر في السبعينيات، أو في برج البراجنة في أواسط الثمانينيات، أو في طرابلس في أواخرها!
النظام السوري يفتش عن مسارات لتوزيع المسؤوليات على الآخرين ويستثني نفسه. الصراع عنده، له ثلاثة عناصر، أولها يتمثل فيه هو باعتباره النظام الشرعي الذي لا يأتيه الباطل من يمين أو شمال، والثاني هو العصابات المسلحة التي يتصف بصفتها، العميد في الجيش بعد ساعة من وصوله الى موقع للجيش الحر رافضاً إطلاق النار على الشعب، والعنصر الثالث الفضفاض، يمثله الخارج المتآمر، المفتوح نطاقه بالنسبة لمخيلة الإعلام الرسمي وأراجيفه. فالشعب ليس له وجود، لا في المعادلة ولا في الحسبة. أما صور الملايين التي تتظاهر غضباً وإصراراً على الرغم من الموت الذي يصيبها، وعلى الرغم من كلفة الدم حتى عند التشييع؛ فليست إلا ديكورات سينمائية من صنع الفضائيات. بل لا يستحي هذا النظام، من تنصيب قطر ـ مثلاً ـ كبلد مُلهم ومحرض لملايين السوريين الثائرين. هو يعتبر الشعب غارقاً في حب بشار، لولا أن "الشيخ حمد" هو الذي يحرض من خلال موقفه ومحطته التلفزيونية. إن هذا مثال على محاولات التهرب الكاريكاتورية من الحقائق. كأن لا عقل للشعب السوري ولا إرادة ولا كرامة، ولا عذابات ولا جراح فيه، ولا موتاً مقيماً يقتنص أبناءه، ولا صبراً لديه نفد، ولا هدفاً يتطلع اليه!
الحياد المبتغى، هو الاستنكاف عن الانخراط في الصراع الدائر، وليس كف العقل والروح، عن فهم طبيعة ما يجري والتعاطف مع إخوتنا السوريين، ولو بالكلمة، إن لم يكن وفاءً لعطائهم على مر تاريخ النضال الفلسطيني؛ فليكن بحسابات المنطق وواجب الإخوّة!
بقي أن أقول، إنه على مر تاريخ الاستبداد الأمني والعسكري في سورية، كانت المعادلة المبتذلة التي اعتمدها حسني الزعيم، وهي مقايضة صمت تل أبيب واستنكافها عن زعزعة الحكم في دمشق، بامتناع النظام عن زعزعة استقرار إسرائيل؛ هي المطبقة موضوعياً، وإن كان بصورة أقل فجاجة من أسلوب حسني الزعيم. ففي حقبة الأسديين، كان التفاهم صامتاً وبلا مظاهر يرصدها الوعي الشعبي، ما خلا حقيقة الصمت الصارخ للجبهة على امتداد ثلاثين سنة، ومطاردة القوى الثورية إن ظهرت في مرمى نيرانه. مسألة "حزب الله" محددة في إطارها الطائفي، ولا تزعجه ومسيطر عليها. قوام التفاهم الأسدي المعدل، هو إعطاء إسرائيل الاستقرار نفسه وأكثر، مقابل استيعاب القدر الأكبر من التنظيمات وعناونين أشباه التنظيمات، بذريعة دعم المقاومة في فلسطين. أحياناً، يخالف الاستراتيجيون الإسرائيليون، منطق الساسة البارعين في ذر الرماد في العيون، فتفلت من الأولين، تصريحات تنم عن الواقع. في أنباء الأمس، عبّر أحد الجنرالات، بطريقة مضللة، عن تخوفه من سقوط نظام الأسد، فذكر سبباً مخادعاً. قال إن إسرائيل تخشى من ملء "القاعدة" للفراغ، بما يعني أن هذا هو المحظور، الذي يجعل إسرائيل تفضل بقاء النظام. وكأن هذه "القاعدة" ستملأ فراغاً وستفترس إسرائيل. ربما لهذا السبب أدخل النظام، شَبَح "القاعدة" على خط الأحداث، باختلاق نمط تفجيراتها، علماً بأن "القاعدة" الحقيقية، ستفجر مخادع نوم الأسديين، لو تواجدت. لكن الشعب السوري، حتى في صيغ التدين وتوجهات الصوفية والسلفية الدعوية، لا يتقبل السلفية الجهادية وهي لا تلائمه!
كنت سأبدأ اليوم، في الكتابة من وقائع التاريخ، عن النكبة وعن النكبويين في حياتنا الفلسطينة والعربية، لكنني آثرت تقديم هذه السطور أولاً، وهي ليست لأخي أحمد دحبور، بقدر ما هي ـ من خلاله ـ الى كل من لا يتعاطف مع الثورة السورية، ولكل من لا يتمنى لها الانتصار العاجل. لقد فهمت مقصد الأخ العزيز، من "الحياد الإيجابي" وأقدر عاطفته وتمنياته الطيبة لشعبه العربي في سورية، وهذا أمر طبيعي من شخص اعتيادي، فما بالنا من شاعر مُجيد، ذي أحاسيس جيّاشة!