الفوضى ومسار حركة التحرر الفلسطينية

رحم الله قدورة موسى. ففي جوار موته، ما يزال هناك شكل مُستعاد، من الظاهرة التي أصابت كبد تحققنا الوطني على الأرض الفلسطينية، بطعنة نجلاء، في غزة الجريحة. نعم، إن لنا مع الفلتان العشائري والعصابي، الذي يتقمص ملامح عنفوان زائف، تجارب مريرة على مر التاريخ المعاصر، كان أخيرها ـ وربما ليس آخرها ـ تجربتنا في غزة، وهي التي أفضت الى نكسة ما تزال قائمة، على صعيد بناء الكيانية الوطنية الموحدة المهابة، التي تكرّس القانون وتحفظ المجتمع باقتدار. وكان لكل فلتان مصادر تغذية مستترة، تدفع عمداً الى إعادتنا الى حال اللا تشكل السياسي والكياني، وصولاً الى حال اليأس. لذا فلا بد من مواجهة الفلتان في كل مرحلة وفي كل موضع، ومتابعة مصادره وأشخاصه وجماعاته والقابعين خلفه. فإن لم تكن السلطة قادرة على الاضطلاع بمهام حماية المجتمع الفلسطيني من العبث؛ فإن البديل سيكون ـ لا سمح الله ـ أن يتولى أمرنا الآخرون، وأن نفتش عن أوصياء وأسياد، يحموننا من أنفسنا، وهنا الطامة الكبرى. بالتالي فإن الضرب بيد من حديد، على كل الأيدي العابثة المستهترة بالوئام الاجتماعي الفلسطيني، بات ضرورة وطنية ووجودية!

كثيراً ما يغيب عن الأذهان، ما حدث في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ أن بدأ الغزو الاستيطاني لبلادنا. ففي كل المراحل، كان هناك من يتقمصون ثوب الاقتدار العائلي والعشائري، ويباهون بقوة مواقفهم وحدتها، حيال آخرين من المجتمع، ومن الحركة المناهضة للغزو ولمشروع انتهاب فلسطين. بلغ الأمر في الثلاثينيات، أن يباهي "زعيم" عائلي، بأن حجم معارضته للحاج أمين الحسيني، تزيد بعشرة أضعاف، عن حجم معارضة اليهود له. كان هؤلاء، الأخيرون، ينجّرون الخازوق للجميع، وينسجون كفن موتنا السياسي والوطني، بدءاً بتخليق كل عناصر الاحتضار، فيما عشائر وزُمر ومتزعمون، يتوهمون أنهم في أوج عنفوانهم. وظلت غرائز التباغض والحث على الخصومة والتوافر على أسبابها وعواملها، تواكب مسيرة العمل الفلسطيني الوطني وتسبب له الوهن. ولعل أدق وصف للتأثير السلبي للنعرات وللتمظهرات العائلية والعشائرية، على السياق العام للحركة الوطنية الفلسطينية، هو ما قاله البروفيسور رشيد الخالدي، صديق أوباما القديم ووارث كرسي الراحل إدوارد سعيد في قسم التاريخ بجامعة كولومبيا: في ثورة الثلاثينيات، استجمع الفلسطينيون إرادتهم لكي يقاوموا خطراً لا يختلفون على توصيفه، لكن الطامة الكبرى، في ذاك الدفق الشعبي، جاءت في كونه "دفق هويات، بعضها متناقض ومتنافر، دون أن يعتبر الفلسطينيون أنفسهم ذلك تناقضاً"!

بالأمس، أرسل اليّ قارىء دائم المتابعة، يعرض عليّ خبراً من صحيفة "هآرتس" عن ضبط الأجهزة الأمنية الفلسطينية لخليه مسلحة، وتقول الصحيفة إن هذه الخلية كانت تخطط لاحتجاز أسرى إسرائيليين لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين". هنا، يدفع تناقض الولاءات والهويات، فلسطينياً (هو قارئي المحترم) لأن يأخذ من "هآرتس" خبراً مقتضباً موصولاً بالعديد من الافتراضات، لكي يصل الى القول: إن سلطتكم عميلة. لم يسأل نفسه، على قاعدة التسليم جدلاً بأن الخبر صحيح وبريء، كيف انكشف أمر الخلية؟ ولماذا لا تنشأ خلية شبيهة من جنوب لبنان أو الجولان أو غزة؟ وما هو سيناريو التطورات التي كانت ستحدث لو أن المخطط الذي جاءت "هآرتس" بنبئه اليقين، نجح في أخذ أسرى من جيش الاحتلال أو المستوطنين؟ وما هي ـ بموضوعية ـ قدرتنا على مواجهة ردود الأفعال؟ وهل هناك علاقة بين وحدة كل أطياف الفلسطينيين في مساندة الأسرى في إضرابهم الراهن، وهذه الدسيسة التي تنشرها "هآرتس" منسوبة الى "مصادر مطلعة"؟. إن رسالة القاريء الكريم، تعكس مثالاً على فداحة العمل المضاد، الذي تضطلع به مصادر الفلتان والضغينة والعنفوان الكاذب، على وحدة الفلسطينيين الوجدانية ووحدة نضالهم!

في سياق الفلتنان، تُستخدم كل شعارات الحق والإباء والكرامة والمقاومة، كذرائع لتعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية. وفي أيامنا الأخيرة، سُفك الدم الفلسطيني في انقلاب غزة، باسم المقاومة التي لا ينبغي أن تنام. بعدئذٍ، تتواصل الخصومة ويحافظ عليها مفتعلوها، كأنها أيقونة، ثم ينامون عن المقاومة، ويفسرون نومها بأنه بمفاعيل بعضنا ضد بعضنا. فلو لم يتآمر بعضنا على بعضنا، لربما حررنا الأندلس. لذا فإن المحصلة لن تكون إلا ما نحن عليه الآن من الحال المُزري. إن أقل ما نفعله الآن، كواجب مقدس، هو الحيلولة دون تفاقم الأمور، لكي لا تتفشى الفوضى في الضفة الفلسطينية، لا سيما وأن شعبنا في الضفة، ما زال يواجه أعتى وأشرس غزوات الاستيطان والانتهاب!

الفلتان الأمني، باسم أي شىء، موتور ومشبوه وينبغي أن يقاوم بكل الشدة، وفاءً للدماء الزكية التي بذلها الفلسطينون على طريق الحرية. لقد أوصلنا فلتان غزة، الى بؤسها الراهن، والى ما تعانية من المحتلين ومن المتمسكين بالخصومة. فلا شىء يهدد الكيانية الفلسطينية والوئام الاجتماعي، مثلما يهدده متقمصو ثوب العنفوان الزائف والبكائيات الزائفة السمجة، على الزلازل الممكنة من تحت أقدام الاحتلال. ولكي نمضي باقتدار، على درب التحرر الوطني، لا بد من ممارسة صارمة للواجبات الوطنية على الصعيد الداخلي.

قضى قدورة موسى، بعد أن راودته طوال حياته أحلام جميلة في وطن عزيز، يتحابب فيه المواطنون وتنتعش روحهم وتترسخ تقاليدهم الأصيلة وفنونهم ويتبدى بهاؤهم. إن كل لحظة ضعف، من شأنها إلحاق عطب مؤلم، في الجسم الفلسطيني. وفي هذه المرحلة، التي نتلمس فيها الطريق الى الحرية والتحقق الوطني، والى عنفوان فلسطيني جامع؛ لا مجال للسماح بتفشي ظاهرة الفلتان التي فتكت بالمشروع الوطني في غزة، حتى بتنا نفتش عن سبيل الى استعادة وحدتنا السياسية والاجتماعية والجغرافية!