النظاراتي السَلفي
في كل زيارة قصيرة الى القاهرة، يكون آخر المشاوير الى سوق "العتبة" القديم في وسط المدينة. يبدأ وقت السوق بصديقي الحاج فوزي النظارتي من التيار السلفي. شيخ يعتمر ذقناً تستطيل نزولاً، وله بسطة على شكل حرف إل بالإنجليزية، تقوم في زقاق يُفترض أنه كان ممراً في واجهة مبنى فندق كبير هو "لوكاندة البرلمان" القديمة، ثم تحول الى مكاتب تجارية ومخازن، في مدينة ومكان، بدت عليهما سمات الشيخوخة. فمن يتأمل ميدان "العتبة" يراه ركاماً لآثار إهمال وفوضى، يمكن معالجتها، لكي يعود فتيّاً أنيقاً.
ميدان التحرير، مركز "الثورة" يحظي الآن بشىء من المعالجة، ربما تكريماً له. فقد بدأت عملية طلاء المباني القديمة، المطلة على الميدان، لكي يعود اليه رونقه، وتصادف أن تولت شركة فندقة عالمية استثمارية، تجديد فندق النيل هيلتون، بعملية ترميم كامل، ومن المنتظر أن يُطل الفندق قريباً، بحلته الجديدة، باسم جديد، على ذات الميدان. مبنى "المُجمع" الحكومي يُطلى الآن بدهان لامع، بينما البنايات القديمة المطلة على ميدان "الاوبرا" ما تزال بلا ألوان. فإن خرجت من فتحة نفق الأزهر، في اتجاه "الأوبرا" تقابلك مبانٍ ضيّع الزمان ألوانها. لم تُعن حكومات رجال الأعمال والانتهاب، في العهد السابق، بتجديد شباب المباني الواقعة في مركز المدينة، وحيثما يلتقط الصور، لثمثال ابراهيم باشا فوق خيله، ملايين السائحين في كل سنة. وكان المهندس المعماري الفرنسي هوسمان، الذي صمم "الشانزيليزيه" في باريس؛ هو مصمم بعض أبرز شوارع وسط القاهرة وشارع ديدوش مراد في الجزائر العاصمة. وبالمقارنة بين راهن "الشانزيليزيه" وراهن وسط القاهرة؛ يتذكر المرء المقولة التي تؤكد على أن الحضارة لا تتحقق ولا تستمر، بتسليم المفاتيح، وإنما هي كالشجرة التي تظل في حاجة الى الرعاية والسقاية!
في "العتبة" التي لم تعد خضراء، هناك عملية تجديد طال أمدها، للمسرح القومي المُطل على الميدان ومن ورائه مسرحي العرائس والطفل. أما العلائم الأخرى فهي مهملة، وبات سوق الأزبكية للكتاب، في حال عشوائية وعلا الغبار المتراكم مسجد "الكيخيا" الأثري، فاستحال رمادياً، وتضاءل حضور شواهد أخرى على تاريخ غنيْ. غير أن صديقي النظاراتي السلفي، بدا مبتهجاً متفائلاً بقادم الأيام!
قلت له: مبروك عليكم يا حاج فوزي النجاح في الانتخابات وموقعكم الثاني في مجلس الشعب". رد متهللاً:"أيوه يا حاج، خلي البلد تنظف"!
ظننت للوهلة الأولى، أن العزم يتعلق بأناقة القاهرة وبرونق أبنيتها وبإعادة النظام الى شوارعها، مع إعادة الاعتبار لحضارة البلاد، وبتطبيق مبدأ النظافة من الإيمان. لكنه سرعان ما استدرك قائلاً:"مش عايزين نشوف الكاسيات العاريات"!
الكاسيات العاريات، تعبير ورد في أحاديث الرسول عليه السلام، في وصف النساء، عندما يرتدين ثياباً غير ساترة لجميع أبدانهن، أو شفافة تصف ما تحتها، أو ضيقة تبرز عوراتهن!
وعلى الفور بدأ التناطح بالأسانيد، بيني وبين الحاج فوزي. حدثته عن الأولويات، وعن السائحات الكاسيات العاريات، وعلاقة حضورهن بالدخل القومي، وذكرته بأن الشق الضيق المحزّق، من السراويل، بات لباس كثيرات من أخواته المحجبات الصالحات، بينما سراويل السائحات غير المحجبات، فضفاضات وبلون ألبسة الجيش. غير أنه ظل يكرر الحديث الشريف: "صنفان من أهل النار لم أرهما. قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مُميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها". قلت له مداعباً: لعنة الله عليهن، ولكن يا حاج فوزي، هن اللاتي سيدخلن النار ولا يجدن ريح الجنة، دعهن يذهبن الى حتفحن واذهب انت الى الفردوس، ولا شأن لك بهن!
ومع استمرار هجوم الرجل، ضقت ذرعاً فرشقته بحديث عاطر: "لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجالون كذابون، قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله"!
* * *
تتواصل المشاجرة وسط ضجيج يفرض علينا، عند المصالحة، علواً لصوتينا، يلامس الصراخ. وليس أطرف بعدئذٍ من "صفقة" نظارات القراءة ونظارات "المشيْ" كما يسميها. يتناول من العلب "شنابر" نظارات، شبيهة تماماً بما تعرضها المحال الراقية بأثمان عالية. فهو ألصق في جدار المبني، وراء بسطته، خزانة رقيقة بأقفال. يتناول "الشنابر" ويعرها عليّ، لأختار منها ما أريد، لي ولإبني الطفل نضال، ويتم تجهيز الواحدة منها بالعدسات الملائمة، ووضعها في حافظة، بـ 35 جنيهاً.
عند تجربة وضوح الرؤية، في النظارة الأخيرة، قلت لصاحبي النظاراتي السلفي: إنني أراك بوضوح أشد، يا حاج فوزي!