نموذجان يشكلان خطراً على الأمن القومي العربي

لم يكن مفاجئاً، وصول رئيس جنوب السودان إلى إسرائيل في أول زيارة رسمية له، ربما سبقتها زيارات سرية، غير رسمية، ذلك ان علامات استفهام كثيرة رفعت منذ سنوات، تتصل بعلاقة ودور اسرائيل في العلاقة مع جيش التحرير الشعبي في جنوب السودان.

فيما مضى، فان من الممكن الصمت على طبيعة وأبعاد وأشكال العلاقة بين إسرائيل وجيش التحرير الشعبي، فبالرغم من بعض التسريبات، و الاخبار، والاشارات، وبعض التقارير والدراسات، الا ان الحرص على السودان، كبلد عربى كبير ومهم، والحاجة للابتعاد عن تحريض قد يضر بالمحاولات التي جرت لمعالجة أزمته الداخلية، كان ذلك يمنع من تناول هذا الموضوع على النحو الذي يستحق.

غير أن ما كان مبرراً في وقت سابق، وقبل الانفصال، لم يعد مبرراً ولا مقبولاً اليوم، ولهذا استغرب وبشيء من الاستنكار تجاهل وسائل الإعلام العربية، وضعف تناول وسائل الإعلام الفلسطينية، لفضح أبعاد الزيارة التي يقوم بها سسيلفا كير لإسرائيل، وما يصدر عنه من تصريحات، لم يتفوه بها سوى حلفاء إسرائيل التقليديين والتاريخيين.

نفهم أن الإعلام العربي منشغل في تغطية أحداث الربيع العربي من مصر إلى سورية، إلى اليمن، ولكن هذا الانشغال لا يقدم مبرراً كافياً لتجاهل أخبار هذه الزيارة المشينة، والخطيرة، حتى على مستقبل الربيع العربي، وعلى الأمن القومي العربي، بكل عناوينه وأبعاد.

منذ إعلان استقلال جنوب السودان، في تموز الماضي، لم يقم سيلفا كير وربما لم يفكر أصلاً في القيام بزيارة رسمية واحدة لبلد عربي، ولذلك فإن اختياره إسرائيل كفاتحة لحركته السياسية الخارجية، يرقى إلى مستوى الخيار ويؤشر إلى الوجهة اللاحقة، بما يشكل تحدياً سافراً للأمن القومي الاستراتيجي العربي، فضلاً عن أنه أي الخيار يشكل ضربة للقضية الفلسطينية.

في الواقع فان اندفاع أزمة السودان، نحو إنتاج الانفصال الأول الكبير، لم يكن فقط نتيجة تداخلات خارجية حثيثة من قبل الولادات المتحدة إسرائيل، والتعددية، والقدرة على استيعاب الآخر، وصهر القوميات والتنوع العرقي في إطار يستجيب لمثل هذه العملية.

والقضية أن النظام الذي أنتج الانفصال الأول، لم يتغير، وهو ذاته النظام القائم، الأمر الذي يؤشر إلى إمكانية ونوع انفصال ثان، وثالث، ذلك أن القوى التي عملت لتحقيق الانفصال الأول، يضاف إليها الانفصاليون في جنوب السودان، سيواصلون العمل من أجل تفتيت ما تبقى من السودان.

إن البيئة التي أنتجت الانفصال الأول الكبير لا تزال قائمة، وصالحة لإنتاج المزيد من الانشقاقات، طالما يصر أهل النظام السوداني على ما هم عليه بل ربما يعتقدون أن الانفصال الأول يوفر لهم فرصة أفضل لفرض الشريعة الإسلامية، والمشروع الإسلامي على مكونات المجتمع السوداني الذي يزخر بالتنوع العرقي والذهبي.

ربما كان علينا أن نحذر من تكرار النموذج السوداني، وما أنتج من اختلالات كبرى، بحيث يتحول ربيع بعض الدول، ذات الخصائص المشابهة أو القريبة لوضع السودان، إلى خريف صحراوي مقفر.

هذا الاعتقاد السوداني، لا يغير من واقع حاجة المواطن العربي، واندفاعه نحو التغيير بما أنه عملية تاريخية لم يعد بالإمكان وقفها أو الجدل بشأن أهميتها، ولكن هذه العملية، تتعرض للسطو، والاختطاف من قبل القوى الخارجية ذات المصلحة، ومن بينها بل وفي مقدمتها إسرائيل والولايات المتحدة، الأمر الذي يبرر للأستاذ الكبير هيكل، والكثير من المهتمين، التحذير من سايكس بيكو جديد للمنطقة.

الخوف وارد من أن ينتج الربيع العربي أكثر من سيلفا كير، الذي يبدي إعجاباً شديداً بإسرائيل، التي يعتبرها 'النموذج الذي يحتذى'، الأمر الذي يجعله يتحدث عن رغبة قوية في توثيق العلاقات والتعاون معها.

ولكن عن أي نموذج يتحدث سيلفا كير، هل عن نموذج الدولة الاستعمارية الاحتلالية، أم الدولة التي تنحدر نحو العنصرية والأبرتهايد، أم عن الدولة العدوانية ذات الدولة التي ترفض السلام، وتعبئ نفسها كل الوقت لخوض الحروب، ونشر الإرهاب والفوضى في المنطقة؟

من الواضح أن ثمة تشابهاً بين النموذجين، إسرائيل وجنوب السودان، وكلاهما يحظى باهتمام القوى الغربية الكبرى، التي أنشأت إسرائيل أصلاً لمنع قيام مشروع قومي عربي، ولاحتجاز تطور وتقدم المنطقة، ومن أجل تفتيتها وشرذمتها على قاعدة المبدأ المشهور 'فرق تسد'.

ثم ما هي مجالات التعاون الممكنة بين إسرائيل دولة الإرهاب والحرب، والاحتلال والعنصرية، وبين دولة جنوب السودان، ذات الإمكانيات والثروات المتواضعة؟

من الواضح أن القضية الأساسية التي يمكن أن يقوم عليها التعاون وتنبني عليها جملة من الأدوار والسياسات، تتصل بحرب المياه فجنوب السودان يقع بالقرب من منابع نهر النيل، الذي لطالما هددت إسرائيل بالتآمر من أجل محاصرة مصر وخنقها، او على الأقل التأثير بقوة في سياساتها الخارجية.

تستطيع إسرائيل، من خلال توظيف جنوب السودان، خلق، أو مفاتحة الأزمة التي تتصل بحصص توزيع المياه من نهر النيل وفروعه، والأرجح أن تحظى بأهمية بالغة، المشاريع الخاصة في جنوب السودان، بموضوع السدود وتحويل مجاري المياه، ما قد يؤدي إلى نشوب حروب المياه في المنطقة.

سلفا كير في إسرائيل ليس مبشراً بالسلام، ولا داعماً لحقوق الشعوب، وإنما هو نذير شؤم، وداعية حروب، وفوضى في المنطقة، والأمر لا يتعلق بموقفه ودوره تجاه القضية الفلسطينية مباشرة، وإنما بقضايا حيوية ذات أبعاد إستراتيجية مصيرية للأمة العربية، إزاء القضية الفلسطينية لن يؤثر فيها أو يضعفها موقف دولة كجنوب السودان، يضاف إلى مواقف ميكرونيزيا، وكندا والولايات المتحدة، هذه الدول، التي تعودنا على تبنيها لسياسات ومواقف داعمة ومؤيدة لإسرائيل عميانياً.