الفيلم الوثائقي ‘فلسطين تحت الانتداب أو الانتدابات من ضفة إلى أخرى’: ضيف مهرجان سينما الشرق الأوسط في باريس

بقلم: أحمد صلال

شهدت صالة السينما الثالثة في حي ‘اللوكسمبورغ’ وسط العاصمة الفرنسية- باريس-يوم الأحد الفائت، عرض الفيلم الوثائقي الفلسطيني ‘فلسطين تحت الانتداب أوالانتدابات، من ضفة إلى أخرى’ للمخرجة الفرنسية ‘جاكلين جيستا’. العرض جاء ضمن فعاليات مهرجان ‘السينما الشرق أوسطية’ والذي يقام في باريس ويستمر حتى الثامن من الشهر الجاري.

وعرض فيلم وثائقي فلسطيني أمام المتلقي الفرنسي، حالة تتجاوز الفن البصري وتعقد أواصر صلة مع الجانب السياسي، والذي لا يمكن فض الاشتباك بينهما في قضية بحجم القضية الفلسطينية، وهذا بالطبع لا يقلل من قيمة الفيلم من الناحية التقنية بل هو قيمة مضافة لجوهر وأساس العمل تقنياً.

كاميرا المخرجة تنتقل كوادرها بين الخط الأحمر والخط الأخضر، بين أراضي السلطة والمستوطنات، مستخدمة الوثيقة كأداة لتبريز ما ترغب من ثيمات، حيث يحضر القهر الفلسطيني الذي لا تحتاج المخيلة الإنسانية لكثير من الاستفزاز لاستحضاره، ولكن القهر الذي ترصده الكاميرا هذه المرة، قهر من نوع آخر، إنه صراع بقاء الفلسطيني في ظل المستوطنات، المستوطنات التي ترغب أن تشكل جسما غريبا في قلب الأراضي الفلسطينية لتحرم السلطة من إقامة الدولة التي عطش لها الإنسان الفلسطيني ولم يرو ظمأه بإقامتها بعد.
وربما السمة البارزة في هذا الفيلم، الأداة الوثائقية الذكية التي استعملتها المخرجة، حيث تدور الكوادر بين ذاكرة سحيقة تستحضر شهادات وصورا ومقاطع فيديو ووثائق وأوراقا رسمية وسجلات وشهادات أناس، لتدحض ذاكرة قريبة تحاول طمس معالم الماضي لتفرض وجودها المادي، هذه الأداة الوثائقية تبني جسور تواصل وجرعة مصداقية بين الأصوات التي تدعم فكرتها، حيث يغدو المشهد البصري شفافا بحيث لا يمكن لمتلق عاقل إنكاره.

كوادر الفيلم ذات ظل خفيف وصادق وعفوي، كوادر لا تفبرك الواقع بل تجسده وجوداً ملموساً وحياً، هذه هي الأجواء التي تحيط بالفيلم.
مستويات الصراع داخل هذه الوثائقي تتخذ عدة مستويات، مستوى تاريخي استلب الأرض من أصحابها الأصليين بقوة السلاح، ومستوى قهر تجسد عبر سلطة الاحتلال، وثالث عبر المستوطنات وما تجسده من وجود عدواني وعنيف، ثلاث مستويات لهرمية الصراع يحيا الفلسطيني تفصيلاتها اليومية عبر جرعات قهر تمارس عليه لكي تقتلعه من جذوره.
احد أصوات الفيلم يتحدث عن سماسرة الأراضي والأساليب والابتزاز الذي يمارسونه من أجل الحصول على الأراضي، ثيمة يستحضرها الفن البصري ليكرسها ويحاول النفاذ إلى أهدافها ومقاومتها، هنا تغدو اللغة البصرية تقاوم فعل الاحتلال، حيث أن الناس لا يريدون ترك بيوتهم، ليسوا أقوياء كما هو حال الاحتلال، ولكنهم بنفس الوقت، ليسوا ضعفاء، هم أناس عاديون لا يرغبون أن يسكنوا الريح في الجهات الأربع.يقول أحد الشخوص الذي ظهر في الفيلم ‘بدنا نصمد’ هذه العبارة ليست خطابية هي فعل له قرين تطبيقي على الواقع، صادرة عن شخص وقع عليه الظلم عديد المرات من الاحتلال وسماسرة الأراضي، وفي كل مرة يخرج فيها أقوى من الأول ويزيد إصراره على البقاء ملتصقاً بأرضه.

سيناريو الفيلم لم يستحضر الصوت الفلسطيني لوحده، ترك مساحة لوجهة نظر الآخر، ومساواة بين صوت الضحية والجلاد موضوعية لا يستحقها الجلاد ولكنه حصل عليها، تسأل المخرجة إحدى المستوطنات أين ولدي؟تجيبها أنها ولدت في إيران.ولماذا تعيشين هنا؟ويكون الرد أنها أرضي!هنا الإدانة من فم المتهم، هكذا يبدو الكادر الأكثر وضوحاً.

قد يكون السؤال الأبرز الذي يطرحه هذا الفيلم ويعتبر موضوعة رئيسية لكوادره، هل قبل الاحتلال بمنطق العدالة بديلاً عن الواقع، بعد أن قبله الفلسطيني، المنطق الذي فرض واقعاً جديداً ديموغرافياً وجغرافياً، يريد المجتمع الدولي التعامل معه عن طريق تعايش دولتين، وتأتي الإجابة من خلال الفيلم أن الاحتلال لا يريد حتى هذه العدالة البديلة عن الواقع، حيث تعمل سلطات الاحتلال على التوسع في الاستيطان وبامكانيات مادية هائلة، وتحرص على زيادة هدم المنازل الفلسطينية، وتهويد القدس وسحب الهويات الشخصية من مواطنيها الأصليين.هكذا تبدو الممارسات التي ترتكب وتحمل بين طياتها الأجوبة على أسئلة الجمهور.
وتبدو أكثر الكوادر مأساوية تلك التي تظهر الفلسطيني وهو يهدم منزله بيديه، تجنباً لتغريمه مبلغا كبيرا من المال ليس بمقدوره دفعه، إذا نفذت سلطات الاحتلال القرار، هل هناك أقسى من أن يهدم الإنسان بيته بيديه، انه يشبه قتل الأب لابنه، هنا يبدو الوضع الفلسطيني جنونيا، حيث القهر يتجاوز كل تصور.
فيلم ‘فلسطين تحت الانتداب أوالانتدابات، من ضفة إلى أخرى’ لغة بصرية تشرح القهر الفلسطيني في فيلم شجاع ومناصر للضحية ضد الجلاد، ويظهر الواقع عبر لغة بصرية محسوسة، تشبه شهادة ووثيقة للتاريخ، وثيقة تظهر صراع الفلسطيني ضد الاحتلال من أجل وجوده وهويته وانتمائه وبذات القدر إنسانيته.

حرره: 
م.م