فكرة السجن بحدّ ذاتها مرعبةٌ أكثر من الإعدام

ahmad_aba_zaid

في الإعدام فناءٌ مجرّد , تسليم النسبيّ لأفق المطلق , استراحة القلق من عبء الحاضر , و استقبال الآتي المشتهى\المخشيّ في العلويّ بكلّيّتك , محض صراحة و حقيقة تُلقى إليها من الدنيا التي ستمتلئ بك أكثر عمّا قليل ..

السجن موتٌ مملّ يراود غفلة الزمن ليحيا , خداع المكان المحاصِر بالخيال , يأس الحقيقيّ فيك من قناع الأمل المرتدى دوماً , غامضٌ كشعاع في ظلمة بحر ... الانتظار مشانق معلّقة للحلم !

تخيّل ثلاثين عاما في مكان واحد و باب واحد و ضوء واحد و وجوه واحدة , ثلاثين عاماً لا تغيّر قبّة صلاتك : هي العفن في السقف دوماً , لا هواء فيها غير ما تجرّبه ردهات القيح , و لا سماء غير المقيّد بالأسوار , لا طعام - تخيّل ! - غير ما يقذفه الطبّاخ كلعنة كلّ يوم , حتى اللعنات في السجن لا تتغيّر ! , و لا نساء .... حتى الجحيم أرقّ من سجنك , الجحيم مؤنّثة تحترف العذاب , السجن ذكر لم يحترف إلّا تجديد قرفه ! , ثلاثين عاما لا تلمس يد أنثى ... مجرّد تخيّل ذلك مشنقة , ربما اشتهاء المشنقة في السجن توق أيضا للأنوثة حتى لو كانت مجرّد تاء في آخر حلقة موتك !

لا أدّعي أنّني كافكا أو مصطفى خليفة لأجرؤ على السواد أو تحليل السجن , ولكن لأبدأ بالقول :

الزواج سجن .. بشكل ما

قيدٌ .. على من اعتاد حياته المتفلّتة من الحبال , كيف لمن أدمن مركب الريح أن يستحيل غرسةً في التراب ! , الزواج مخيف كذلك , كتفان حملت بهما اشتهاءك , ستتمرّدان عليك انكسارا إن حمّلتهما أعباء المؤسّسة التي يدعونها أسرة , هذا لا يعني رفضا تامّا و قطيعة – كقطيعة الأسد مع الشرف - , وإنّما مساحة ارتياب ضروريّة للوعي بالعاصفة !

أقصى ما تخيّلتُه في زوجة بعد صفات الشمس و البساتين و الجنّات و الغزلان و تفاصيل الخصر و العينين و شكل أظافر القدمين , إلى آخر قائمة المشتهى التي تكرّرها الخطّابات :

أن تكون زوجة أقرأ لها محمود درويش في الليل و تدندن معي مارسيل في لحظة عشق و ثورة , أو حسن الحفّار في مسراه الروحانيّ إلى المقام الأسنى , أو فيروز في كلّ وقت , أنثى تلبس الغيم في المطر , و تشقّ نهر بكاء أمام رائحة الدم في نشرة الأخبار , و تهتزّ لتشبيه لطيف في شعر أندلسيّ , و يأسرها وجد الدعاء لدى أذان الفجر , تأخذ عنّي بعضا من عبث المصطلحات في ما بعد الحداثة , و تقرأ معي الشعر الجاهلي بعد بيجوفيتش , ولا أحتاج لكثير من الحياء لأتلو أمامها الماغوط أو النوّاب , و قد تشرّح فروقي لتكشف ما تقاسمني بين درعا البلد و عمّان , وربما تقول إن أرادت غيظي أنّ المسيري لم يقدّم جديدا أو أنّ الجابري ضعيف أمام طرابيشي أو أنّ نظريّة الهويّة لديّ متهاوية , أو ربّما تجرّب قتلي – لدى غضب شديد – بأن تسمع محاضرة شيخ طويل اللحية و الجهل في عذاب القبر أو علامات الساعة !

ربما أهرّج هنا أو أتكلّم جادّا .. لا فرق ما دام كلّ ذاك في الوراء مذ كانت الثورة

دمُنا خبزُنا اليوميّ , أشلاؤنا سلعة الفضائيّات , حكاياتُنا\أحلامُنا\خيالاتُنا\أوهامُنا رهن رصاصة الشبّيح في صلاته اليوميّة للقائد ,

مالذي في قلب الرصاصة حين تخترق صدر فتاة ؟! , ما الذي في صدر الشارع حين يشرب دم الطفل ؟! , ما الذي في عقل التراب حين يغطّي كيساً من اللحم و الأعضاء كان يمشي يوماً ما عليه ؟! , ما الذي في أذن الغيم من دعاء الأمّهات ؟! , ما الذي في مئذنة الجامع من قامات الهاتفين ؟! , ما الذي في بصر الشمس من بريق الدم ؟! , ما الذي في نشيد المطر من معنى الحلم المشتهى قبل كفن ؟!

, ما الذي في الورقة من وجع الأرقام : كانت لنا أسماء تهزّ قلب الحبيبة في رسالة الليل يا إحصائيّة الشهداء ؟!!!!

ما الذي فينا من الوطن .... ؟!

أريد ان انقضّ على الدساتير و الشرائع و شعارات الصحف , أريد أربع زوجات , أريد أربعين , أريد أكثر , أريد أولادا بحجم المراثي , أريد أسرة كالمستحيل : ثورتنا , أريد بيتاً من دموع الأمّهات , أغاني من المناجاة الأخيرة قبل الدفن , أريد أعراسا تكفي لأجرّب فيها كلّ مراسم التشييع , أريد أن أقتل محراب المرأة المقدّسة في ذاتي المسكونة بالأنثى .. ولكن المسكونة بالشهداء أكثر , أريد أن أعمّي التصوّف عنّي لأحيي الجسد , أريد لذرّاتي المسكونة بالموت أن تتمرّد على اليوتيوب : سنحيا رغما عن صورنا في الشاشات , أريد أن ألامس المسيح و أسرق منه تجربة الإحياء : مرّر يدك على رأسي يا مولاي ليعود الشهداء من الحلم إلى فطور الأم !

ربما تصبّ اللعنات عليّ الآن جمعيّات حقوق المرأة و مدمنو السينما و الروايات والتقنّع بالاتيكيت في أمسيات الرقص ...

هؤلاء المساكين ..

هم لا يدركون قسوة أن تموت دون أن يكون لك ابنٌ اسمُه " غياث " !

مرارة ألّا تحمل الألعاب ركضا إلى بيتك لتنادي بلهفتك الطفلة : " ليال " تعالي العبي معي .. لا رصاص الآن .

هم لن يبلغوا يوما هذا الظمأ المقدّس فيك لأن تمسك بيد "علا" و تأكل معها البوظة و الذكريات ..

هم لن يعرفوا أيّ قلق ينخر فيك من ألّا يأتي ذاك اليوم الذي تعانق فيه ابنتك بين الجموع و تهتف : "هاجر" أصبحت اليوم دكتورة !

أريد ان أبني بيديّ مضمار خيل يلعب فيه " حمزة " , و حدائق بابل ليركض فيها " إبراهيم " , و مصنع سيّارات كي يجرّب " عبد الرحمن " كلّ شوارع الوطن التي لم تعرف كيف يبتسم !

كيف سأجيب لدى سؤال : كم ولداً لديك ؟! , اثنان ؟! أربعة ؟! سبعة ؟!! , أيّ مهزلة يريدون لي ألّا يروي الرقم حكاية يوم من الشهداء في وطني : 19 \ 30 \ 47 \ 56 \ 73 ... !!!

يا غلام اكتب لديك فتواي الجديدة :

التبرّع بالزكاة و الصدقات و الرواتب و الذهب و الخبز لبناء مصانع لاستنساخ البشر فرض عين على كلّ نفس

!

أريد مئة من " هادي الجندي " يكفي لنحكم العالم و تتفجّر الأرض حياة حتى تبتلع الفلك !

أريد عشرة من " حسام عيّاش " يبدؤون بدمهم الأسطورة , ربّما تستعجل بذلك القيامة حتى لا تفقد الدهشة فيها ! , ربما نراهم في الجنّة أسرع

أريد خمسين من " طالب السمرة " كي أثبت للعالم أنّ كلّ ما فعله نيتشه و إنسانه الفائق هو تشويهه و تزويره و تقزيمه لحلمٍ سوريٍّ هائلٍ أبيض رآه فيه فقط !

أريد ألفاً من " مجد أبو اللبن " أوزّعهم على الأرض كي يستريح علماء البيئة و الفلسفة و الادب و الكيمياء من البحث عن عالم طاهر !

أريد مئتين من " إبراهيم القاشوش " لكلّ منهم سمّاعة واحدة فقط يلفّ بها العالم و يغنّي , لتنتهي الجيوش و يصبح البارود في أرض الأغاني ذكرى للهواء !

ستلعنني الآلات و تصرخ : أيّها المأفون , هؤلاء اختصاص الله وحده !

___

سنكونُ يوماً ما نريدُ : وطناً للإنسان لا غابةً للأسد

سيكون لحكايات الحبّ في وطننا قلقٌ واحد من مفاجأة الغد لا من غدر الرصاصة

سيكون للأطفال تراب يلهون به من غير أن يبكي لأنّه سيضمّهم جسما من الدم بعد هتاف الأب

سيكون لنا شوارع للتسوّق و بعثرة الخطوات و مراقبة الأطفال في الصبح و خصور الفتيات بعد العصر ... لا لنسحب جثثنا الممزّقة في عاصفة النار .. !

ستكون الأمومة فرصة لتجريب الخبز و الفرح المفاجئ , لا قلقا معدّا لانتظار صعقة الفقد

.

.

.

سننتصر حتماً ... نقطة