كريم مروة في «فلسطين وقضية الحرية».. المثقفون الفلسطينيون وطرق الحرية

بقلم: فيصل دراج
في «فلسطين وقضية الحرية» كتب كريم مروة عن مثقفين فلسطينيين، قرأ لهم وقرأ عنهم وعرفهم من قضيتهم، التي هي قضيته منذ عهد طويل. بل أنه شارك بعضهم «الحلم الاشتراكي»، الذي كان له لغته وطقوسه ونهايته، التي هي ليست بالنهاية تماماً. ولأنهم كانوا «رفاق درب»، كما كان يقال، فقد جمع كتابه بين الأفكار، التي تشرح ما يجب شرحه، والأحاسيس التي تضيف إلى الكلمات والمحبة والندى.
يضع الكتاب أمام قارئه ما يمكن أن يدعى بـ «طبقات الذاكرة»، التي تحتضن أزمنة متنوعة، يتجاور فيها الشباب والكهولة، والخيبة و«النقد الذاتي»، وبقي فيها موقع ظليل لما يدعى بـ «الأمل»، الكلمة التي اعتصم بها «رفاق الدرب»، وهم ذاهبون من «معركة ما» إلى أخرى. لكأن هذا اللبناني الثمانيني يكتب عن ذاته وهو يكتب عن آخرين، متقدماً إلى الأمام ومتراجعاً إلى الوراء، تاركاً المستقبل في مكانه، وموقظاً أزمنة تبدو غافية. ولعل كتابته عن معارف وأصدقاء، اقتسم معهم «ثقافة التحرر»، هو الذي يضع في كتابه أبعاداً من الاحتفال والزهد والحنين.
تتراءى في طبقة الذاكرة الأولى ملامح من طفولة منقضية، ووقائع تبدو اليوم منسية، كان لها في زمن مختلف شكل البداهة. نقرأ في مدخل الكتاب: «فتحت عيني وأنا طفل على فلسطين، على الكثير مما كنا نأكله ونلبسه ونتعامل معه وبه في حياتنا اليومية. وكانت خرجيتي اليومية والأسبوعية تقدّم لي بالعملة الفلسطينية وبالعملة اللبنانية في آن معاً». حمل الطفل في ذاكرته أشياء من فلسطين، وسار بها طويلاً، محاذراً النسيان واستبداد الزمن، الذي أسقط «العملة الفلسطينية» ولم يسقط أطيافها.
وإذا كان في طبقة الذاكرة الأولى طفولة بريئة و«عملة مهزومة» وقضية عادلة، تآكلت أطرافها لاحقاً، فقد احتضنت الطبقة الثانية «الحلم الشيوعي»، الذي قصده كريم شاباً، وتقاسمه مع مثقفين فلسطينيين كثيرين، ابتعد عنهم الحلم، حيناً، وابتعدوا عنه في أيام الشك والمساءلة. ولعل هذا الحلم، الذي ترسّب شائكاً في صدور ليست بقليلة، هو الذي أملى على كريم أن يكرّس جزءاً كبيراً من كتابه عن «رفاق الدرب»، وعن الرفاق اختاروا دروبهم من دون دليل.
فالدراسة الثالثة في الكتاب تدور حول المؤرخ إميل توما، الذي ولد في حيفا ودرس في كيمبردج، وانتسب إلى الحزب الشيوعي في أربعينات القرن الماضي، وبقي في فلسطين بعد احتلالها، ومات مريضاً في بودابست عام 1985، وهو يعالج من مرض السرطان، هو في السادسة والستين. وإذا كان «إميل الأول»، الوسيم الأنيق المهذّب، قد رحل وهو عضو في «الحزب الشيوعي الإسرائيلي ـ راكاح»، فإن مجايله إميل الثاني، أي إميل حبيبي انصرف إلى الأدب، وانتسب بدوره إلى الحزب الشيوعي، وأعطاه قلمه، جاداً ساخراً، فخوراً بلغته العربية وبـ «أمميته»، إلى أن غلبته سخريته «المسترخية» فطلّق الحزب في شيخوخته، واستراح من الالتزام الشيوعي، وبيّن «الإميلين»، اللذين كان لهما مزاجان مختلفان، يقف توفيق زياد، الشاعر والقائد في حزبه والنائب الذي وضع «نجمة حمراء في سماء الناصرة». وهناك مكان للشاعر معين بسيسو، الذي رفع شعارات شيوعية في مدينة غزة، وهو لم يبلغ العشرين، مستثمراً حرية، لن يجود بها الزمن بعد عقود قليلة. وفي مناخ «راكاح»، الذي شارك في الحفاظ على الثقافة العربية في فلسطين المحتلة، وساعد على تفتّح مثقفين كثيرين، نشأ محمود درويش، الذي أسقط حلمه الشيوعي مبكراً، حين اصطدم في موسكو «برفاق سوفييت» يعاقبون الخيال ويكرّمون «المخلوقات المطيعة».
عرف كريم مروة رفاقه الفلسطينيين عن قرب، قابلهم في القاهرة وبيروت، والتقى بهم، في زمن الرضا، في «عواصم المنظومة الاشتراكية»، من موسكو إلى برلين، ومن براغ إلى بودابست، هذه العواصم التي «حظيت» باجتماعات حركة «السلم»، التي اعتبرت ذات مرة «جنة المناضلين الشيوعيين على الأرض». وفي هذه اللقاءات قرأ كريم قلق إميل حبيبي وإيمانية توفيق زيادة وجدية إميل توما، وقرأ شيئاً ما يوحّدهم جميعاً ويبقيهم فرادى.
شيوعية المثقفين الفلسطينيين
بيد أن كريم، وهنا الطبقة الثالثة من ذاكرته، لم يكتب عن شيوعية المثقفين الفلسطينيين، ففي لقب الشيوعي ما يجمع أحياناً بين الشيطان والرحمن، بل قرأهم بعنوان كتابه «فلسطين وقضية الحرية»، القضية التي دافع عنها مثقفون لبنانيون كثيرون يستهلون بالشاعر وديع البستاني، الذي ندّد بقصيدة متصهينة للعراقي معروف الرصافي، ويحتقبون رئيف خوري و«الزعيم» أنطون سعادة، ويتجددون بأجيال لاحقة من المبدعين.
حاور كريم فكرة مجددة عنوانها: «ثقافة من أجل فلسطين»، قبل أن يتوجه إلى مثقفين فرادى، مستعيداً صورة: «الثقافة الوطنية»، التي تنقد وتقترح وتحرّض وتحلم بتحويل الثقافة الوطنية النقدية إلى ثقافة مجتمعية. واستأنس بفكرة «الثقافة الوطنية الفلسطينية»، التي جمعت بين الفعل والإحساس، تاركة «صناعة الكتب» لأصحاب الاختصاص، الذين يسوّقون الشعارات ويطردون القيم الأخلاقية. ولهذا رأى إميل توما في ممارسته العملية للثقافة، صحافياً ونقابياً ومحرضاً وطنياً يردد بصفاء «لا مكان لثقافة حرة إلا في وطن حر»، مؤكداً حرية الوطن مقدمة لكل فعل ثقافي. ويتكشّف إميل حبيبي في محاضراته التنويرية وخطبه الجماهيرية في «يوم الأرض» وممارسته المبدعة للغة العربية، حيث اللغة هوية في مواجهة لغة ـ هوية مغايرة ومهدِّدة. ويتجلى توفيق زياد في تنديده بالعسف الإسرائيلي وفي بيته المحاصر الذي هدّد الإسرائيليون بحرقه وفي قلق عائلته التي تنتظر خروجه من الحصار سالماً. ويبدو معين بسيسو، بصوته الخشن، كأنه مظاهرة تنتقل من غزة إلى سجون القاهرة، ومن الأخيرة إلى الكويت، ومنها إلى دمشق، ثم بيروت، فموت وحيد حزين في لندن أقرب إلى الاغتيال. ومع أن كريم قرأ هؤلاء في إنتاجهم الفكري وإبداعهم الأدبي، فإن المقروء فيهم، الذي لا يحتاج إلى كتب، ماثل في فعل وطني، وفي استعداد للتضحية، يبرهن أن المثقف الفلسطيني محصلة لقيمه الثقافية الكفاحية، التي لا تحتمل التجارة والتسليع، والتي تضيق بأرواح نرجسية فقيرة تنسب فلسطين إليها دون أن تنتسب إلى فلسطين.
شرح كريم، بوضوح مقتصد، العلاقة بين الثقافة والفعل الثقافي، بلغة معينة، أو بين الوقائع الثقافية والوقائع العملية، بلغة أخرى. ففي نشاط المثقفين، في أربعينات القرن الماضي، ما أنتج حزباً شيوعياً عربياً له صحيفته المدافعة عن حقوق العرب (الاتحاد) وله مجلته الأدبية «الجديد»، وفي قصائد شعرائه البعيدة عن الصمت والقريبة من مظاهرة. والسؤال الشائك الصعب والحالم معاً هو : هل يمكن تحويل الوقائع العملية إلى وقائع ثقافية؟ يستدعي السؤال غسان كنفاني، وهو من مواضيع الكتاب، الذي أوصلته الرواية إلى السياسة، لأنه كان طلق التفكير وطليق الأسئلة، بدلاً من أن تقنعه السياسة بكتابة الرواية. فقد وعى غسان معنى الزعيم المهزوم، الذي يتمسّك بالقيادة، وهو يكتب «رجال في الشمس»، معتبراً الرواية جزءاً من الحياة لا انعكاساً لها.
لم يقرأ كريم غسان كنفاني في أعماله الأدبية، بل احتفى به إنساناً دافع عن الحرية ومارسها: دافع عن الحرية في كل ما كتب، ومارس الحرية في تعددية كتابية جمعت بين الرواية والمسرحية في القصة القصيرة والمقالة الصحفية، أضاف إليها تحزّباً سياسياً، وذلك في صيغة قلقة، تعتبر الكتابة فعلاً سياسياً، وتعتبر الفعل السياسي شكلاً من أشكال الكتابة. ولعل هذا القلق، الذي صاحبته رومانسية قاتلة، هو الذي قاد غسان إلى «عمليات عسكرية خاصة»، رد الإسرائيليون عليها بإنهاء حياته. من هنا صدر السؤال السابق: هل يمكن تحويل الوقائع العملية (الكفاح المسلح) إلى وقائع ثقافية؟ والإجابة لها احتمالات مختلفة، ينفتح بعضها على الموت. يقرأ اختيار غسان في جملة عارضة في مسرحيته «الباب» تقول: بإمكان الإنسان أن يختار موته، بعد أن فاته أن يختار ميلاده.
عاش غسان الحرية وهو يدافع عنها، كما لو كانت في ذاتها أجمل الأوطان، مقترباً، بشكل لن يتكرر كثيراً من رسام الكاريكاتور ناجي العلي، الذي علّم نفسه بنفسه، ورأى في «الرسم» سلاحاً موائماً، فاحترفه وأوغل في احترافه، حتى أسكتته رصاصة في لندن، تاركاً وراءه مصيراً غريباً. فقد ولد في قرية الشجرة في فلسطين عام 1937 ومرّ بمخيمات لبنان وانعطف إلى الكويت وانتهى، غصباً، إلى لندن. اختلط عميقاً بدلالة المخيم، فعاش في مخيم عين الحلوة طويلاً حتى أدمن عليه، وتآلف مع «حنظل الحياة» الذي اختصره رسماً في طفله حنظلة. وسم هذان العنصران حياة «ناجي» المقاتلة، وهما اللذان جذبا كريم مروة إلى هذا الإنسان الأليف الوجه البسيط الحركات، الذي آثر اختباراً لا تنقصه المغامرة: مواجهة السلطة السياسية بالحق، أكانت السلطة برميلاً من النفط، أم «جهازاً أمنياً» يحترف اغتيال التمرّد وتهديد الفلسطينيين.
لم يشأ كريم مروة، الذي استدرك بعض الكسل الفلسطيني، أن يضع كتاباً في المراثي والمديح. أراد بحثاً ثقافياً، فرجع إلى ذاكرته وخبرته، واستأنس بمراجع كثيرة، موثقاً بحثه ومستفيداً من توثيق حياته العملية. قرأ الذين «احتفى» بهم في تحصيلهم العلمي وتحزّبهم السياسي وملامحهم الخارجية، وقرأهم في أحلام بدت ذات مرة واعدة وانطفأت.
واتكاء على الملاحظة الأخيرة يأتي بعد الذاكرة الرابع، الذي أراد أن يكون منهجياً وموضوعياً في منهجيته. لذا استهل كريم كتابه ببحث عن «بندلي جوزي 1871 ـ 1942»، كما لو كان رسم «التاريخ الثقافي الفلسطيني الحديث»، الذي له مبتدأ أو ما يشبه المبتدأ. وليس له نهاية، فالنهاية هي الموت. كان المقدسي «جوزي» رائداً في البحث العلمي في التراث العربي الإسلامي، تأمل تاريخ اللغة العربية ووضع كتابه الشهير «الحركات الفكرية في الإسلام»، الذي تصادى في أعمال فلسطيني آخر هو إميل توما والباحث اللبناني حسين مروة والسوري الطيب تيزيني وصولاً إلى كتاب سريع للمصري أحمد عباس صالح عن «اليمين واليسار في الإسلام». ومع أن الكتابة عن «جوزي»، الذي قضى معظم حياته في ما كان يدعى «الاتحاد السوفييتي»، توحي بأن كريم يتابع «الماركسيين» لا غيرهم، فإن كتابه مشدود، أولاً وأخيرا، إلى مصائر «الثقافة في المجتمع الفلسطيني»، التي قضت بأن يهمّش المثقفون الفلسطينيون أسئلة كثيرة، وأن يدوروا إلى حدود الدوار حول موضوعهم الوحيد: الوطن المصادر. والهاجس المنهجي، إن صح القول. الذي أعطى الثقافة الفلسطينية تاريخاً خاصاً بها، ينمو ويتوسّع، هو الذي اقترح اسم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى 1909 ـ 1980)، الذي ربط قصيدته بفلسطين وأسس لتقليد تناسلت فيه أسماء متعاقبة، بدءاً من مطلق عبد الخالق إلى عز الدين المناصرة ومريد البرغوثي.
متحزّب وغير متحزّب
وضع كريم كتاباً متحزّباً وغير متحزّب في آن: متحزّباً وهو يمر مروراً حنوناً على مثقفين أرادوا أن يكون لهم وطن حر كالآخرين (من هم الآخرون؟)، وغير متحزّب وهو يقرأ المثقف، لا حزبه، ملقياً الضوء على تعددية كتابية متمردة، تجاوزت في زمن غير هذا واقع الشعب الفلسطيني وظروفه وعدده.
ولهذا ترك في كتابه مكاناً للدكتور إحسان عباس، الأكاديمي الواسع الثقافة الذي حافظ على طبع ريفي يميل إلى التقشّف والكآبة. وإذا كان في ثقافته المتعددة الأبعاد ما يثير الإعجاب ـ وصف نفسه ذات مرة بالمثقف الجوّال ـ فإن الوجه الآخر للإعجاب، وهو أكثر سعة، يأتي من تواضعه وحضوره الأليف، وذلك الغضب الصامت الذي لاحق به قضية عادلة لم تنتصر. قال ذات مرة: إن عملي الأكاديمي ضيّق حدود حياتي، ومنعني عن «مشاركة أهلي في كفاحهم الوطني». تتكشّف حرية إحسان عباس، ربما، في تجواله الطليق في حقول المعرفة، فهو المؤرخ والمحقق والمترجم والناقد الأدبي والعالم اللغوي وصاحب سيرة ذاتية «غربة الراعي»، استهلها بجملة طويلة عن «مصائر جميع البشر التي تنتهي إلى مزبلة». لكن هذه الحرية تتجلّى، بشكل آخر، في مراقبته للأحزاب السياسية الفلسطينية وابتعاده عنها، فهي لم تقنعه وهو لم يقتنع بها، وظلّت روحه قريبة من قريته «عين غزال» ومن «الحسن البصري» و«أبي حيان التوحيدي»، اللذين أكثرا من النظر إلى السماء وزهدا بأطماع الخليقة.
بغية إنجاز كتاب تتبادل فيه الحرية والثقافة المواقع، توقف كريم أمام الشاعرة فدوى طوقان، التي وقعت في الأسر العائلي التقليدي وردت عليه بنزوع عاصف إلى الحرية والتمرّد، كما لو كانت تقول: ما نفع العائلة إن كانت شكلاً آخر للسجن، وما نفع الأوطان، إن كانت صورة أخرى عن المعتقلات؟ والنفع الحقيقي الذي لمحته الشاعرة، وترجمه كنفاني بصوت فريد، إيمان الإنسان بأنه فرد يتمايز عن غيره، وأن فرديته جديرة بالحرية والتمتع بها، هذه الحرية التي أحد وجوهها «الحب الحقيقي»، كما صرّحت فدوى مشيرة إلى الناقد المصري أنور المعداوي، الذي تبادلت معه حباً عذرياً لسنوات.
كان لمحمود درويش عمله الهائل في اللغة الشعرية، وانصرافه الكلي إلى الشعر، ولهاثه النبيل وراء قصيدة متجددة، أراد لها أن تكون صوتاً فريداً وجماعياً وأن تكون فلسطينية وكونية معاً. وكان لإدوارد سعيد ثقافته الكونية وأسلوبه السجالي البديع ومجازفاته النظرية في «الاستشراق» و«الثقافة الإمبريالية»، وكان له، في أواخر حياته، صوته الرسولي، الذي تشبه بالأنبياء، والذي كلما تقدم في العمر زادت فلسطينيته، حتى بدا مسؤولاً عن «نقاء المسألة الفلسطينية».
في الأسماء، التي كتب عنها كريم، موقع لشيوعي إيماني، حال توفيق زياد، وموقع لشيوعي أرهقته شيوعيته فرمى بها جانباً واستراح، مثل إميل حبيبي، وآخر لليبرالي ملتبس (إدوار سعيد) يدافع عن فلسطين ولا يشتاق إلى القدس (المدينة المتجهمة) ويريد تغيير العالم وينفر من مفهوم الهوية. وهناك الشاعر كمال ناصر، الذي ولد في مدينة غزة ودرس في الجامعة الأمريكية في بيروت، ولم يكن أحد من معارفه يعرف انتماءه الديني، وهو الذي اعتنق قومية عربية واعدة، في الخمسينات المنقضية، لم تمنع عنه حكماً إسرائيلياً بالإعدام، تم تنفيذه في بيروت عام 1972. كان الشاعر وهو مثقف بامتياز، مسؤولاً عن الإعلام في منظمة التحرير.
ما هي المفردات التي تنبثق من كتاب كريم مروة بعد الانتهاء من قراءته؟
تحضر كلمة الوفاء، فالمؤلف وفيّ لأصدقاء عرفهم ورحلوا، ووفيُّ لذاته التي زاملت القضية الفلسطينية منذ عقود ، ويحضر تعبير: استئناف الاستئناف، فبعد دفاع أبي سلمى عن وطن خذله متزعمون عرب لا ينقصهم الكذب ولا البلاغة، دافع عنه بتفاؤل أكبر وحزن أقل توفيق زياد، واستمرت صورته اليوم في قصائد غسان زقطان. غير أن ما يبدو ممتداً وشديد الامتداد ماثل في حنين هادئ الصوت إلى زمن توارى، «كان الرفاق فيه يلهجون بانتصار الثورة»، وفي حنين القارئ إلى زمن «كتابة الالتزام»، الملتحقة بفلسطين وغيرها، والتي تجاورت في فضائها أسماء عمر فاخوري ورئيف وفرج الله الحلو وحسين مروة وذلك الرومانسي الصارخ الذي ساوى بين علم التاريخ وأغاني القلب والمدعو : مهدي عامل. وهناك شباب الشيخوخة، إن صح القول، الذي أقنع كريم مروة بوضع كتاب، يقع في مائة وثمانين صفحة، يجمع بين التأمل والتذكر والتوثيق، ويعيد إلينا تعبيراً لما يعد مألوفاً هو: الكاتب النبيل.
وأخيراً: أي زمن فلسطيني هذا الذي أعطى خليل السكاكيني وإميل حبيبي ومحمود درويش وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإحسان عباس...؟ ربما تشيخ الأزمنة كما يشيخ البشر، وربما يخالطها كدر كثير يعلن عن «فساد الأزمنة».